من المعالم الطبيعية الواقعة غرب المدينة النبوية، وتردَّد ذكرها في الأحاديث الشريفة والسيرة العطرة، ففي أعلى بُقعةٍ منها وُضِع حدُ حِمى المدينة، وهو حِمى الشجر، وعلى صعيدها نزلت آيات كريمة من القرآن الكريم متعلقة بالصلاة، وهي آية التيمم، ولقربِها اللصيق بالبيداء، وردت بعض الآثار تجمع بين الموضعين لحادثة واحدة، فمن هذه المكانة السامية لذات الجيش، يحسُن الحديث عنها ببيان موضعها وذكر معالمها، وأحداث السيرة المرتبطة بِها.
موقع ذات الجيش:
تقع ذات الجيش على طريق المدينة المنورة مكة (الطريق القديم) بعد مبنى محطة تِلفاز المدينة بكيل ونصف الكيل، أي (1500 مِترٍ) وعند هذه المسافة على هذا الطريق وُضِع جسر لعبور سيل ذات الجيش، إذْ ذات الجيش شِعْب يقطعه الطريق.
وذات الجيش تبدأ من عند مصنع بن لادن المخصَّص لرخام وحجر عمارة المسجد النبوي الشريف، الواقع على طريق المدينة بدر القديم.
وصف الموقع بذكر المعالم الطبيعية:
فعندما تبدأ في الصعود من ذي الحليفة فأنتَ في البيداء، وتنتهي البيداء بذات الجيش؛ يفصِل بينهما -في قول العياشي- جبل يُعرَف بظِلْع النوم، نِسبة لنوم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها(1). ولذلك جاء في الحديث الصحيح: حتَّى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، فهذا اللفظ يُشعر ويُفيد باختلافِ المعلمَيْن وقربِهما من بعضِهما.
وشِعبِ ذات الجيش تُعدُ من أشهر معالم سلسلة جبال أعظام (جبل عظم وجبل عُظيم، وجبال المفرحات).
وأعلى ذات الجيش أو كما جاء في الحديث "شرف ذات الجيش" أَعْلمَه النبي صلى الله عليه وسلم فهو مُنْتَهى حَدِّ الحِمَى، ومسافة الحِمَى بريد في بريد من جميع جِهات المدينة ونقطة الارتكاز المسجد النبوي الشريف.
والحقيقة فإن وصف الشنقيطي مؤلف (أحماء المدينة المنورة) من أتقن الأوصاف وفيه فوائد، وجاء في وصفه بعد أنِ استعرض أوصاف منْ سبقَهُ من المتقدمين والمعاصرين فقال: الأقوال السابقة كلها تتفق على أنَّ ذات الجيش بعد ذي الحليفة على الجادة العُظمى، أي طريق الأنبياء، وهو الطريق المُوصِل من المدينة إلى مكة عن طريق ذي الحليفة وتربان وملل... إلى آخر المراحِل إلى مكة.
واختلفت أقوالهم في المسافة بينها وبين المدينة أو ذي الحليفة اختلافاً كبيراً. ثم أخذ يصِف الطريق من المدينة إلى ذات الجيش فقال: تخرج من المسجد النبوي الشريف في اتجاه طريق مكة المكرمة القديم المار على ذي الحليفة وبدر وهو الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر والفتح. فتأخذ طريق عمر بن الخطاب (طريق العنبرية) فتجعل محطة قطار الحجاز على يمينك؛ وكان موقعها يُدعى السُقيا، ثم تتجاوز المحطة إلى العبور من تحت الجسر، وهذا موضع نقب بني دينار وابتداء الحرَّة الغربية (حرَّة الوبرة) ثم تهبِط الحرة عند بئر عُروة وتجزع وادي العقيق جماء تضارع على يمينك والعقيق على يسارك وتسير حتى تتجاوز التقاطع المؤدي إلى مسجد المحرم (ذي الحليفة) وهنا تبدأ في صعود البيداء، فتستمر في السير حتَّى تُحاذي جبل أعظم (عظم) فتشاهد شعابه تتجه جنوباً لِتصب في مجرى إسمنتي ينقل مياه تلك الشعاب إلى وادي أبي كبير، وبعد السير قرابة ثلاثة كم تصِل إلى الجِسْر المُقام على الطريق لعبور سيل ذات الجيش قادماً من أعلى الشعبة التي تبعد التلعة الهابط منها حوالي (3 كم) عن الطريق، ترى منها رأي العين في الاتجاه الشمال الغربي.
وبحساب المسافة من المسجد النبوي الشريف إلى جسر ذات الجيش تجد أنَّها حوالي (20 كم) أي قريبة جداً من البريد (12 ميلاً) (أحماء المدينة المنورة ص33).
ويؤيد الترتيب في هذا الوصف، ما أخرجه مسلم بسنده عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ، أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ. فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟. قَالَ: لَا! قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ. فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ. قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ. فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ(2).
أهمية ذات الجيش في السيرة النبوية:
ارتبط بذات الجيش بعض التشريعات والأحكام الفقهية، من أهمِّها كَوْنُهَا حدّاً لحِمى المدينة من الجهة الجنوبية الغربية ينتهي في شَرَفِ ذات الجيش، ونزول آية التَّيمم.
فكان أول تُرابٍ صعيدٍ طاهرٍ تيمَّمَ منه النبي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ هو صعيد ذات الجيش، وقد كان ذات الجيش في ذلك الزمن مسكناً طيباً فيه رِياض غنَّاء أهاجت قريحة الشُعراء، وليس هو كاليوم أرضاً جرداء تعمل فيه كسَّارات البناء! فذات الجيش هو الموضِع الأرجح الذي نزلت فيه آية التيمم، أما البيداء وهي ملاصِقة لذات الجيش ومُلاصِقة لذي الحُليفة، فهي أرض فسيحة مستوية مكشوفة على بعضِها، وهي مناسبة للخسف وتعذيب أولئك الظلمة الذي جاء ذكرهم في الحديث الصحيح، وتحديد البيداء بأنّها الموضِع الذي يُخسَفُ فيه بذاك الجيشِ جاء بِصِيغةِ الجزمِ؛ وجاء ذكرها مُنفرِداً.
ذات الجيش حدٌّ لِحِمَى المدينة من الجهة الغربية:
أطلقَ الإمام مالك إمام دار الهجرة على هذا الحِمى "حِمَى الشجر" وهو الحِمى الثاني ويُحيط بالمدينة إحاطة السِوارِ بالمعصم "بريد في بريد". والبريد اثنا عشر ميلاً يبدأ قِياسهُ من المسجد النبوي الشريف إلى جميع الاتجاهات. وهو تحريمُ قطع الشجر أو أنْ يُعضَد، ويُستثنى من ذلك الصيد.
والأحاديث في ذلك مُستفيضة، في كتب الحديث المُصنَّفة على الفقه تحت أبواب فضل المدينة، ومستفيض كذلك في المصادر المُصنَّفة على المسانيد ومعاجم الشيوخ، وفي المصنفات التي تناولتْ المدينة.
جُمِعتْ أكثر هذه الأحاديث ودُرِستْ في كتاب "الأحاديث الواردة في فضائل المدينة للرفاعي.
" ومن الأحاديث التي ورد فيها ذكر ذات الجيشِ حدَّاً للحمى؛ حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعَلِّم على أشرافِ حرمِ المدينة، فأعلمتُ على شَرَفِ ذات الجيش؛ وعلى مشيرب؛ وعلى أشراف مخيض؛ وعلى الحَفيا؛ وعلى قلت. وعنه أيضاً قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعلِّم حِمى المدينة؛ أعلم على أشرافِ ذاتِ الجيش، وعلى أعلام الضبوعة، وعلى أشرافِ مخيض، وعلى أشراف قناة. وعنه أيضاً قال: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشَّجَر بالمدينة بريداً في بريد، أرسلني فأعلمتُ على الحرم، وعلى شرف ذات الجيش، وعلى مشيرب؛ وعلى أشراف المجتهر؛ وعلى تيم.
هذه بعض الروايات الواردة في وضعِ معالِمَ ومناراتٍ فوق أعلى هذه المواضع التي هي حدّ حِمى الشجر، ويُلاحظ من خلال هذه الروايات وغيرِها أنّ الذي كُلِف بهذه المُهمة الصحابي الجليل كعب بن مالك الخزرجي، وأنَّ الرواية في هذا الباب وردت عن طريق أبنائه.
ويقول الشنقيطي: نستخلص من روايات الصحابي الجليل كعب بن مالك، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهُ أن يضع أعلاماً واضحة على حدود الحِمَى على ثنايا "الطريق في الجبل" يراها من كان مارَّاً فيعلم أنَّ هذا هو حدّ حِمى المدينة الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الاعتداء عليه.
ونستخلص أيضاً؛ أنَّ من السُنَّةِ تحديد حِمى المدينة بأعلام واضحة، ووضعِ تحذير على العلامات بعدم جواز قطع الشجرِ وتجريف التربة أو إلقاء الملوثات فيها، التي تؤدي في النهاية إلى موت الأشجار، لأنَّ الحِمى عبارةٌ عن حزامٍ أخضر للمدينة، فيجب وضع الأنظمة التي تكفل عدم انتهاك حرمة الحِمى.
وعلى الأمانة أو الجهة المسؤولة تجديد هذه الأعلام، على نحوِ الأعلام التي وضِعت على حدِّ الحَرم(3).
نزول آية التيمُمِ بذات الجيش:
أخرج البخاري بسنده؛ عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماء. فأتى الناسُ إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنَعت عائشة! أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟!. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس؛ وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح الناس على غير ماء. فأنزل الله عز وجل آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه فوجدنا العِقد تحتَهُ.
وأخرجه مسلم بسنده عن مالك وذكَرَه بِحروفِهِ. ورواه أحمد في مسندهِ بسندِهِ عن مالك وذكر الحديث(4). وهذا نصّ مسلم: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس؛ وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته.
صورة لِعَلَم شَرَف ذات الجيش:
صورة لِعَلَم شَرَف ذات الجيش ( أحماء المدينة للشنقيطي ص34).
للتوسع:
العياشي (ص: 419)، صحيح مسلم (3 / 1449 - 1450) 150، كتاب أحماء المدينة للباحث المحقق عبد الله بن مصطفى الشنقيطي، وجاء حديثه عن ذات الجيش من (ص30 – 39)، صحيح البخاري (1 / 74).
روابط ذات صلة