التسمية والموقع:
ذباب: كغراب، وككُتاب(1)، جبل صغير أسود، مدور الشكل، متواضع الارتفاع، يقع في الجهة الشمالية الغربية من المسجد النبوي(2)، يفصل بين طريق العيون وطريق أبي بكر الصديق، ويبعد عن المسجد النبوي 1500م، وعن طريق أبي بكر الصديق (سلطانة) نحو 75م، ويحاذي طريق العيون مباشرة، ويمكن التعرف عليه بسهولة من خلال محطة الزغيبي للمحروقات، حيث يقع خلفها مباشرة(3).
ويروى أنه سمي بهذا الإسم نسبة إلى رجل من اليمن قدم إلى المدينة؛ وقتل بعض أهلها، فقتل وصلب على بعض صخوره(4)، لكن يفهم من الرواية أن الجبل عرف بهذا الإسم قبل أن يُتخذ مصلباً(5).
ويقال له: جبل الراية، لِمَا روي أنه ضربت عليه قبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب يشرف من خلالها على حفر الخندق(6)، حيث كان الخندق يربط ما بين الحرتين الشرقية والغربية، ويمر من أمام هذا الجبل متجهاً إلى أطم المذاد في الحرة الغربية مقابل جبل سلع. وقد روى الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ذباب(7). وروى ابن شبة عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم قبته على ذباب(8). وقيل: سمي بذلك، لأن يزيد بن هرمزان كان يحمل راية الموالي في موضع ذباب أثناء وقعة الحرة(9).
وقال أبو غسان: إن السلاطين كانوا يصلبون على ذباب، وعن الحارث بن عبد الرحمن بعثت عائشة رضي الله عنها إلى مروان بن الحكم حين قتل ذبابا وصلبه على ذباب، تعست صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذته مصلباً(10). وقال هشام بن عروة لزياد بن عبيد الله الحارثي: يا عجباً أتصلبون على مضرب قبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فكف عن ذلك زياد، وكف الولاة بعده عنه(11). ويذكر العياشي أن جبل ذباب كان يسمى راتجاً، ويعرف اليوم بالقرين التحتاني، وكانت الطريق الخارجة من ثنية الوداع الشامية تمر به، فيراه الداخلون والخارجون(12).
وقد استغل النبي صلى الله عليه وسلم وجود هذا الجبل، ووظفه في أحداث الغزوة، وقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ في أنّ رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ركب فرساً له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعاً ينزله، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعاً خلف ظهره، ويخندق من المذاد؛ إلى ذباب؛ إلى راتج(13)، فكان الخندق الذي حفره المسلمون في السنة الخامسة للهجرة يمر من قاعدته الغربية.
ويذكر بعض المؤرخين أن الصخرة التي أعاقت الصحابة أثناء حفر الخندق؛ تقع عند هذا الجبل من الجهة الشمالية. فقد روى الطبري في تاريخه قال: حدثنا محمد بن باشر قال: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب من أجم الشيخين طرف بني حارثة حتى بلغ المذاد، ثم قطعه أربعين ذراعاً بين كل عشرة، فاحتق المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً. فقالت الأنصار: سلمان منا، وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت. قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان، وحذيفة بن اليمان، والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا تحت ذباب حتى بلغنا الندى، فأخرج الله عز وجل من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.
فرقي سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة، فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلاً ولا كثيراً، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق ورقينا نحن التسعة على شقة الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها، يعني لابتي المدينة، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فصدعها وبرق منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة فكسرها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم أخذ بيد سلمان فرقي.
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يارسول الله بأبينا أنت وأمنا، قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبر فنكبر، ولا نرى شيئاً غير ذلك، قال: صدقتم، ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق منها الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر. فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمدلله موعد صادق بار وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب، فقال المؤمنون: (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليماً).
وقال المنافقون: ألا تعجبون يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا. وأنزل القرآن: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)(14).
وصف الجبل:
وهو عبارة عن كتلة صخرية مستديرة لا يزيد ارتفاعها عن 20 متراً، ويبعد عن القرين الفوقاني نصف كم، وإلى الشرق منه تقع منطقة راتج، وغربه تقع منطقة الشوط، وبينه وبين سلع منطقة تسمى حسيكة(15).
وقد أشار بعض علماء الجيولوجيا إلى أنه لا يمكن اعتبار هذه الكتلة الصخرية جبلاً بالعرف المورفولوجي، بل هو امتداد طبيعي لجبل سلع؛ لأن صخورهما متشابهة، فهي سوداء ذات أصل ناري غير مكتمل التحول، إلا أن إنشاء طريق أبي بكر الصديق (سلطانة) قد عزز فصلهما عن بعضهما البعض(16).
مسجد الراية:
وقد بني فوق جبل الراية، وفي المكان الذي ضربت فيه قبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- مسجد أثري صغير سمي مسجد الراية(17).
وتذكر بعض المصادر أن بناءه يعود إلى عهد عمر بن عبد العزيز حين كان أميراً على المدينة، وقد تهدم في القرن الثالث، ثم أعاد بناءه الأمير جانيك النيروزي عام 845هـ(18)، وقد عنيت به وزارة الأوقاف السعودية، وحافظت على شكله القديم ليبقى معلماً تراثياً.
والمسجد مبني بناءً متقناً بالحجارة المطابقة، على صفة المساجد العمرية(19)، ومجصص من الداخل والخارج، وقد أحاطت به المنازل إحاطة السوار بالمعصم، وغطت عليه من كل جهة، وعلى جانب الباب لوحة مكتوبٌ عليها: (وزارة الحج والأوقاف، أوقاف ومساجد منطقة المدينة المنورة. مسجد الراية).
وهو مكون من: مصلى صغير عليه قبة، طول ضلعه الجنوبي 10ر6م، وضلعه الشرقي 25ر5م، وارتفاعه 6 أمتار، ينفتح من الجهة الشمالية على فناء طوله من الشرق إلى الغرب (9م) ومن الجنوب إلى الشمال (8م) تمت تغطيته في السنوات الأخيرة. وفي الجهة الشمالية من خارج الصحن دورتان للمياه، والمسجد عامر تقام فيه الصلوات الخمسة.
وفي وقتنا الحاضر غطى العمران معظم الجبل، وأصبح المسجد محاطاً بكثير من المباني التي تكاد تخفيه عن الأعين، فلا يكاد المار يبصره إلَّا إذا تحرى رؤيته، لكنه يبقى الأثر المميز للجبل.
(1) الفيروز آبادي، المغانم المطابة، مرجع سابق: (2 / 284)، عبد الغني، محمد إلياس، المساجد الأثرية: (61).
(2) عبد الغني، المساجد الأثرية، مرجع سابق: (60).
(3) المراغي، زين الدين بن عمر، تحقيق النصرة. تحقيق: محمد عبدالجواد الأصمعي. الطبعة الثانية. (المدينة المنورة: المكتبة العلمية (1401هـ / 1981م): (229). الكعكي، معالم المدينة بين العمارة والتاريخ، مرجع سابق: (1 / 271 - 272). الشنقيطي، غالي محمد الأمين، الدر الثمين. الطبعة الثالثة. (جدة – بيروت: دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن (1411هـ - 1991م): (161).
(4) السمهودي، علي بن عبد الله، خلاصة الوفا. تحقيق: د/ محمد الأمين محمد محمود أحمد الجكني. (طبع على نفقة السيد: حبيب محمود أحمد، وجعله وقفا لله تعالى): (2 / 316). السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (3 / 49). الشنقيطي، الدر الثمين، مرجع سابق: (163). ابن شبة، عمر بن شبة، تاريخ المدينة. تحقيق: فهيم محمد شلتوت. (طبع على نفقة: السيد حبيب محمود أحمد – جدة. عام النشر: (1399هـ) ): (1 / 62).
(5) الوكيل، محمد السيد، المدينة المنورة تاريخ وحضارة: (50).
(6) السمهودي، خلاصة الوفا، مرجع سابق: (2 / 315). ابن شبة، تاريخ المدينة، مرجع سابق: (1 / 62).
(7) الطبراني، المعجم الكبير: (6 / 124).
(8) ابن شبه، تاريخ المدينة: (1 / 62).
(9) السمهودي، خلاصة الوفا، مرجع سابق: (2 / 317).
(10) ابن شبه، تاريخ المدينة: (1 / 45).
(11) ابن شبه، تاريخ المدينة: (1 / 45).
(12) العياشي، المدينة بين الماضي والحاضر، مرجع سابق: (74).
(13) السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (4 / 71). الواقدي، المغازي، مرجع سابق: (2 / 445).
(14) الطبري، تاريخ الرسل والملوك: (2 / 568).
(15) العياشي، المدينة بين الماضي والحاضر، مرجع سابق: (559).
(16) الخطيب، الخصائص الطبيعية، مرجع سابق: (26).
(17) السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (3 / 49).
(18) السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (2 / 315).
(19) السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (2 / 315).
روابط ذات صلة