مزرعة بئر عثمان بن عفان (رومة)


الاسم والنسبة:


تشتهر هذه البئر بإسمين، لم يغلب أحدهما على الآخر منذ العهد النبوي، وإلى يومنا الحاضر.


الأول: رومة، وهو بضم الراء وسكون الواو وفتح الميم بعدها هاء، وقيل: رؤمة، بهمزة ساكنة بعد الراء(1)، ويقال: أرومة(2). وقد اختلف المؤرخون في (رومة)، فذكر أَبُو عبد الله بن منده أن رومة رجل من غفار، وهو صاحب البئر، وقد نسبت إليه، قال: "يُقَالُ: إنه أسلم"(3).

ولعل ابن منده فهم هذا خطأ، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر من قول عثمان في الرواية عنه: "أتجعل لي مثل الّذي جعلت لرومة" فظن ابن منده أن المراد به صاحب البئر، وليس كذلك، لأن في صدر الحديث أنّ رومة اسم البئر، وإنما المراد بقوله: (جعلت لرومة)، أي لصاحب رومة(4).

 

ونقل المقريزي عن الواقدي: أن رومة امرأة من مزينة، أو أمة لهم تستقي منها للناس، فنسبت إليها(5).

وقال بعض الرواة: إن الشعبة التي هي طرفها تدعى رومة، والشعبة واد صغير يجرى فيه الماء(6).

وأياً كانت حقيقة (رومة) التي نسبت لها البئر، لكنها تظهر أن التسمية قديمة، وأن البئر أيضاً ضاربة بجذورها في التاريخ.

 

الثاني: بئر عثمان بن عفان رضي الله عنه، الصحابي الجليل ثالث الخلفاء الراشدين، وسميت باسمه؛ لأنه هو الذي اشتراها وأوقفها على المسلمين، ويقال: إنه أول وقف في الإسلام(7).

أخرج البغويّ في معجم الصّحابة من طريق بشر بن بشيم الأسلميّ عن أبيه قال: لمّا قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجلٍ من بني غفارٍ عينٌ يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمدٍّ. فقال له النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "تبيعنيها بعينٍ في الجنّة؟". فقال: يا رسول اللّه ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي اللّه عنه فاشتراها بخمسةٍ وثلاثين ألف درهمٍ، ثمّ أتى النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: "نعم"، قال عثمان: قد جعلتها للمسلمين(8).

وفي الصحيح أنّ عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم بالله ولا أنشد إلّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (من جهّز جيش العسرة فله الجنّة)، فجهّزتهم؟ ألستم تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر بئر رومة فله الجنّة)، فحفرتها؟(9) فصدّقوه فيما قال(10).

 

وفي رواية التّرمذيّ في جامعه، والطّحاويّ في شرح مشكل الآثار، والإمام أحمد في مسنده بسندٍ حسنٍ عن عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه أنّه قال: قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، وليس بها ماءٌ يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من يشتري بئر رومةٍ، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخيرٍ له منها في الجنّة)، فاشتريتها من صلب مالي(11).


ممن اشترى عثمان البئر؟


اختلفت الروايات في الرجل الذي اشترى عثمان منه البئر، فأكثر الروايات وأصحها أنه رجل من بني مزينة، وأنه اشتراها بأربعمئة دينار، كما سيأتي في رواية ابن سعد.

وذكر ابن عبد البر "أن بئر رومة كانت ركية ليهودي يبيع ماءها من المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري رومة، ويجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم، وله بها شرب في الجنة"(12)، فاشترى عثمان بن عفان نصفها، فكان المسلمون يرتوون يوم عثمان لليوم الذي يليه، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت علي ركيتي فاشتر النصف الآخر، فاشتراه وجعل البئر كلها للمسلمين.

 

وفي رواية: أن عثمان أتى اليهودي فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى عثمان نصفها بـ(12) ألف درهم، وجعله للمسلمين، وقال عثمان لليهودي: إن شئت جعلت لنصيبي قربتين، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، فقال: بل لك يوم ولي يوم، فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك: قال لعثمان: أفسدت علي ركيتي فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف درهم، وجعل البئر كلها للمسلمين.

وذكر الفيروز آبادي أن صاحب هذه البئر، هو رومة الغفاري، كان يبيع منها القربة بالمد أو بالدرهم.

ولعلها تنقلت ملكيتها بين هؤلاء إلى أن اشتراها عثمان رضي الله عنه من الرجل المزني، وجعلها في سبيل الله، ويروى أنه زاد في حفرها ووسعها، وأصبحت تسمى بئر عثمان.


تاريخ البئر والتطورات التي جرت عليها:


ليست لدينا معلومات تذكر الزمن الذي تعود إليه هذه البئر، إلا أن الروايات تثبت أنها قديمة جاهلية، فقد روى أهل السير: أن تُبَّعًا لما قدم المدينة نزل بقباء واحتفر البئر التي يقال لها: بئر الملك، وبه سميت، فاستوبأ ماءها، فدخلت عليه امرأة من بني زريق من اليهود اسمها فكيهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت فأخذت حمارين واستقت له من ماء رومة، ثم جاءته فشربه، فقال: زيدينا من هذا الماء(13).

وكان صعب بن عبد الله الزبيري يذكر رومة ويتشوقها، وهو بالعراق، فيقول:

 

أقول لثابت، والعين تهمي      دموعاً ما أُنَهْنِهها انحدارا
أعرني نظرة بقرى دجيل                تحايلها ظلاماً أو نهارا 

فقال: أرى برومة أو بسلع          منازلنا معطّلة، قفارا(14)

 

وتشير الروايات أيضاً أن البئر قد هجرت وانطمت مع مرور الأزمان، ثم جاء قوم من مزينة، فأصلحوها وعمروها(15)، ولعلها استمرت في أيديهم حتى جاء عصر النبوة، وهاجر المسلمون إلى المدينة، وكانت في ذلك الوقت من أعذب الآبار في المدينة، إن لم تكن أعذبها، كما تقدم في رواية الترمذي، وكان يستقى منها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يستعذب ماءها، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعم الحفير حفير المزيني)(16)، قال السمهودي: "يعني رومة، والذي حفرها رجل من مزينة"(17).

ومن أجل ذلك شجع النبي صلى الله عليه وسلم على وقفها على المسلمين، حتى يستفيد منها الجميع، وجعل مقابل ذلك عيناً في الجنة، وقد حاز بهذا الشرف ذو النورين عثمان رضي الله عنه.

روى ابن سعد عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر رومة، وكانت لرجل من مزينة يسقي عليها بأجر، فقال: (نعم صدقة المسلم هذه، من رجل يبتاعها من المزني فيتصدق بها؟) فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بأربعمئة دينار، فتصدق بها، فلما علق عليها العلق مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسأل عنها، فأخبر أن عثمان اشتراها وتصدق بها، فقال: (اللهم أوجب له الجنة)، ودعا بدلو من مائها فشرب منه، وقال صلى الله عليه وسلم: (هذا المتاع، أما إن هذه الوادي ستكثر مياهه، وتعذب، وبئر المزني أعذبها)(18).

وروى أيضاً عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ببئر المزني، وله خيمة إلى جنبها، وجرة فيها ماء بارد، فسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء بارداً في الصيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (هذا العذب الزلال)(19).

 

واستمرت البئر بعد العصر النبوي تفيض بعطائها قروناً مديدة، إلا أن انحسار الأمن في المدينة، وانحصار سكانها داخل سور لا تتجاوز مساحته 3كم مربعاً؛ أثر على عطاء البئر والعناية بها، وقد أشار إلى ذلك ابن النجار المتوفى عام (643هـ) فقال: "وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جدًا، وهي في براح واسع من الأرض وطيء، وعندها بناء من حجارة من خراب، قيل إنه كان دير اليهودية، والله أعلم، وحولها مزارع، وآبار وأرضها رملة، وقد انتقضت خرزتها وأعلامها، إلا أنها بئر مليحة جدًّا... قلت: وأعلم أن هذه الآبار قد يزيد ماؤها في الأزمان عما ذكرنا، وقد ينقص، وربما بقي منها ما كان مطموماً"(20). وقال المطري المتوفى عام (741هـ): "وقد خربت ونقضت حجارتها، وأخذت، وانطمت، ولم يبق منها إلا أثرها"(21).

ثم هيأ الله لهذه البئر القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن المحب الطبري قاضي مكة المشرفة، فجددها، ورفع بنيانها عن الأرض نحو نصف قامة، ونزحها،  فكثر ماؤها، وكان ذلك في حدود سنة 750هـ(22)، قال الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: "ولا نعلم هل عمارتها الحالية، هي عمارة هذا القاضي، أم كانت بعده؟"(23).

 

وهي الآن كما يقول الأستاذ علي حافظـ :"مطوية طياً محكماً بالحجارة السوداء وماؤها عذب حلو، والبئر لا ينضح منها الماء اليوم، ومشرفة على الجفاف، وماؤها قليل جداً يظهر في قاعها بين الصخور، وهي أعني البئر، والبستان تحت يد أوقاف المسجد النبوي وأجرتها على وزارة الزراعة مدة طويلة، وقد اتخذتها الوزارة محطة للتجارب الزراعية وتربية الدواجن، وبنت حظائر للأبقار، والدجاج، والأرانب وغير ذلك، كما بنت فيها كراجاً واسعاً للسيارات ومساكن للموظفين، وأنشأت فيها حدائق غاية في الجمال والتنسيق، ومشاتل لشجر الزينة، والفواكه والموالح والزهور".

قال: "والسبب في إهمال بئر رومة وعدم السقي منها؛ أن ماءها قل، وحفرت وزارة الزراعة بئرين ارتوازيين في شمال بئر رومة، وركبت على كل من البئرين (طرمبة) تضخ الماء للري، وسعة بوصة الضخ في كل بئر أربع بوصات"(24).

وقال الأستاذ محمد حسن شراب: "ولكن هذه البئر أصبحت معطلة، مع غزارة الماء في بقعتها، حيث حفرت بئر بجانبها لسقاية بستانها في العصر الحديث(25).


وصف البئر:


والبئر مطوية بحجارة الحرة السوداء، يبلغ  قطرها أربعة أمتار، وعمقها اثني عشر متراً، وكان ابن النجار قد قدم وصفاً لها فقال: "مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعًا، منها ذراعان ماء، وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع، وماؤها صاف، وطعمها حلو، إلا أن الأجون قد غلب عليه"(26).


موقع البئر: 


تقع البئر اليوم في حي بئر عثمان، داخل المزرعة التابعة لوزارة الزراعة، قرب مجرى وادي العقيق من جهة الشرق، ومن مائه تنبع هذه البئر، في الجهة الشمالية لمسجد القبلتين، في براح واسع من الأرض، قبلي منطقة الجرف المعروفة إلى اليوم، تبعد عن المسجد النبوي حوالي خمسة كيلو مترات.

وقد ظلت هذه البئر عبر القرون المتتابعة معلماً تاريخياً هاماً، تتابع المؤرخون والمحدثون على ذكرها والحديث عنها، ولعل الجهات المعنية في المدينة المنورة تولي هذه البئر مزيداً من الاهتمام، وتعيد لها مكانتها، لتبقى شاهداً من شواهد التاريخ الحي، تحكي للأجيال العديد من الأحداث التي مرت بها المدينة المنورة، وتلهم المفكرين مزيداً من دروس الماضي بعيون الحاضر.


(1) السمهودي، خلاصة الوفا: (2 / 440)، الصالحي، سبل الهدى: (7 / 227).
(2) ابن الفقيه، البلدان: (82).
(3) زين الدين الهمداني، الأماكن: (439).
(4) ابن حجر العسقلاني، الإصابة: (2 / 448).
(5) المقريزي، إمتاع الأسماع: (7 / 350).
(6) المقريزي، إمتاع الأسماع: (7 / 350).
(7) هناك اختلاف بين الباحثين في أول حبس في الإسلام، فمنهم من قال: إنه حبس رسول الله (لأموال مخيريق اليهودي، ومنهم من قال: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه أسبق المسلمين لها، وذلك بحبسه بئر رومة. سحر مفتي، أثر الوقف: (5).
(8) البغوي، معجم الصحابة: (1 / 294).
(9) المعروف أن عثمان رضي الله عنه شراها، ولذا قيل: إن ذكر الحفر وهم من بعض الرواة، وقد يجمع بأنه رغب في شرائها فاشتراها، ثم احتاجت إلى الحفر فرغب فيه فحفرها، السمهودي، خلاصة الوفا: (2 / 441).

(10) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب: إذا وقّف أرضاً أو بئراً، حديث رقم (2778).
(11) أخرجه الترمذي في جامعه -كتاب المناقب- باب مناقب عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4036) -والطحاوي في شرح مشكل الآثار- رقم الحديث (5019) -والإمام أحمد في مسنده- رقم الحديث (420) (511) وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(12) السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (3 / 138).
(13) الفاسي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: (2 / 407).
(14) ياقوت الحموي، معجم البلدان: (1 / 300).
(15) المقريزي، إمتاع الأسماع: (7 / 350).
(16) ابن زبالة، أخبار المدينة: (227).
(17) السمهودي، وفاء الوفا، مرجع سابق: (3 / 138).
(18) ابن سعد، الطبقات الكبرى: (1 / 505).
(19) المصدر السابق نفسه.
(20) ابن النجار، الدرة الثمينة: (181).
(21) المطري، التعريف بما آنست الهجرة: (159).
(22) المراغي، تحقيق النصرة: (297).
(23) الأنصاري، عبد القدوس، آثار المدينة: (245).
(24) علي حافظ، فصول من تاريخ المدينة: (192).
(25) محمد حسن شراب، المدينة المنورة: (1 / 443).
(26) ابن النجار، الدرة الثمينة: (181).

كود لاظهار الخريطه

qrcode

روابط ذات صلة


صور المعلم